تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

هم الكارثة و"الحل .. القادة الدينيين وتعاملهم مع جائحة كورونا رؤية مستقبلية

هم الكارثة و"الحل .. القادة الدينيين وتعاملهم مع جائحة كورونا رؤية مستقبلية

حالة من الارتباك سادت بين أتباع الأديان بعد انتشار جائحة فيروس "كورونا" العالمية، خاصة بعد أصبحت التجمعات الدينية تشكل بؤرًا لانتشار هذا الوباء المميت، وسط تحذيرات محلية ودولية من أن تتحول هذه التجمعات المرتبطة بطقوس دينية واجتماعات لقادة دينيين إلى كارثة محققة وإصابات بالآلاف.

في هذه الأزمة العالمية تجلى دور رجال الدين والقيادات الدينية على مستوى العالم كـ "كارثة" و"حل" في نفس الوقت .. ففي الوقت الذي نادت فيه منظمة الصحة العالمية بتجنب التجمعات بكافة أشكالها، كان هناك بعض من القادة الدينيين لا يزالون غير مدركين لخطورة الموقف، أو ربما تفسيراتهم الدينية الغير متزنة للكوارث والأوبئة -كونها عقاب إلهي يستوجب اجتماع المؤمنين لدفعه- قد سيطر على تصرفاتهم فأصبحوا بذلك "كارثة" بزيادة أعداد المصابين نتيجة إصرارهم على التجمع لأداء الطقوس الدينية حتى يزيل الله الوباء.

القيادات "الكارثة"

للأسف أظهر فيروس "كورونا" أنه لا يزال هناك بعض القادة الدينيين يحتاجون إلى إعادة تأهيل وإدراك للواقع، فقد تسبب بعضهم في خلق بؤر جديد للوباء كانت مصدرًا للمرض في دول عدة، مثلما فعل قيادات جماعة "التبليغ والدعوة" الإسلامية في ماليزيا وإندونيسيا.

فقد كانت ماليزيا على وشك السيطرة على انتشار هذا الفيروس عندها وأعلنت رسميًا شفاء كافة الحالات، ولكن أصر القيادات الدينية للجماعة على عقد تجمعها السنوي في مسجد "سري بيتالينغ" بكوالالمبور، رغم التحذيرات الطبية، وقاموا بالاعتكاف في المسجد من يوم 27 فبراير إلى أول مارس 2020، وكان عددهم يزيد عن 16 ألف شخص من من ماليزيا وتايلاند والجزيرة العربية والهند والفلبين.

من هنا بدأت الكارثة وتوسونامي كورونا في عدد من دول آسيا، وبعد أن كانت ماليزيا تسجل عدد إصابات (0) بفيروس كورونا، سجلت في يوم واحد ما يزيد عن 800 حالة وذكرت بعض التقارير أنهم 1200 حالة كان ثلثيهم مخالطين لجماعة "البليغ والدعوة" التي اعتكفت في المسجد، فيما تتبع السلطات في ماليزيا الآن حوالي 5 آلاف شخص كانوا مشاركين في هذا الحدث يرجح إصابتهم، وتزداد الأعداد يومًا بعد يوم حتى دخلت ماليزيا دائرة البؤرة الموبوءة بعد أن كانت قد أوشكت القضاء على الفيروس، وتكرر نفس الأمر بعدها بأيام في إندونيسيا وعندما سألوا القائد الديني للجماعة عن الخوف من انتشار كورونا كان رده: "خوفنا من الله أكبر"، و"متع الدنيا قليلة مقارنة بالآخرة".

وفي كوريا الجنوبية تسبب تجاهل الزعيم الديني "لي مان هي" مؤسس كنيسة "شنتشونجي" وأعضاء الكنيسة البالغ عددهم 230 ألفًا، في تفشي مرض "كورونا" في كوريا الجنوبية بعد تجاهل التحذيرات الصحية وتجمعهم لآداء طقوس دينية أسهم في تناقل الفيروس، مما استدعى زعيمهم على الانحناء أمام الشعب لطلب الغفران، بعد تورط كنيسته في المساعدة على تفشي الفيروس القاتل وسط المواطنين، وإصابة أكثر من نصف أعضاء الكنسية بالفيروس.

القيادات "الحل"

دور القيادات الدينية في جائحة "كورونا" لم يكن على طول الخط كارثيًا، بل هناك كذلك جهودًا كبيرة قامت بها المؤسسات الدينية في الكثير من بلاد العالم خاصة في المنطقة العربية، وكان نتاج هذه الجهود الإسهام بشكل مباشر في تحجيم انتشار فيروس كورونا، فأصبحوا حينها جزء لا يتجزأ من حل هذه الأزمة العالمية.

فعلى سبيل المثال قررت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية تعليق العمرة والزيارة لبيت الله الحرام، وكذلك غلق المساجد وتعليق صلاة الجماعة والجمعة وكافة التجمعات الدينية، وهو نفس القرار الذي اتخذته وزارة الأوقاف في مصر ودعم قرارها هيئة كبار العلماء بالأزهر ودار الإفتاء المصرية، وتبع ذلك عدد من القيادات الدينية في الدول العربية التي اتخذت نفس القرارات للحد من انتشار الفيروس القاتل.

ويجب هنا أن لا أغفل دور مؤسسة دار الإفتاء المصرية في تفاعلها مع الأزمة بالخطاب المصور الذي وجهه فضيلة مفتي مصر إلى الناس، وما أصدرته الدار من فتاوى وإرشادات دينية بطرق مختلفة وآليات متنوعة تعاونت بها مع المؤسسات الصحية ومؤسسات الدولة المصرية في جهودها لمواجهة "كورونا"، وتعريف الناس بالتوجيهات الإسلامية التي قررتها الشريعة الإسلامية وقت انتشار الأوبئة والأمراض والكوارث.

وأذكر على سبيل المثال أنه عندما ظهرت بعض الأصوات المعارضة من الدعاة المتشددين لقرارات غلق المساجد وتعليق صلاة الجماعة فيها ومطالبتهم للناس التجمع للصلاة أمام أبواب المساجد المغلقة، أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى بتحريم هذه الممارسة، مؤكدة أن الإسلام أوجب على المؤمنين في كل البلدان الالتزامُ بتعليمات الجهات الطبية المسؤولة التي تقضي بإغلاق الأماكن العامة للحد من انتشار وباء فيروس كورونا.

إجراءات مماثلة اتخذتها الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بقيادة البابا تواضروس الثاني، حيث أعلن المجمع المقدس غلق جميع الكنائس وإيقاف الخدمات الطقسية والقداسات والأنشطة واقتصار الجنائز على أسرة المتوفى فقط لمواجهة «كورونا».

الخلاصة أن تلك الإرشادات والفتاوى وكذلك الإجراءات الكنسية التي اتخذها القادة الدينيين في مصر وغيرها من الدول العربية ودول العالم بعثت رسالة مهمة إلى كافة أتباع الأديان حول جدية التعامل مع الوباء القاتل والالتزام بكافة الإجراءات الوقائية التي تتخذها الحكومات.

  رؤية مستقبلية

أظهر لنا وباء "كورونا" أننا نحتاج إلى رؤية مستقبلية لمزيد من التفعيل لدور القادة الدينيين ورجال الدين عند مواجهة الأوبئة والكوارث العالمية، فمنهم قد يتحول الأمر إلى كارثة، وفيهم وفي توجيهاتهم قد تكون الحلول والإسهام فيها.

أعتقد أن الحاجة أصبحت ملحة بعد انجلاء هذه الأزمة أو ما يمكن أن نسميه: "عصر ما بعد الكورونا" أن نعمل على عقد قمة عالمية تناقش دور القيادات الدينية ورجال الدين في مواجهة هذه الجائحة التي هزت العالم، وما وقع من سلبيات وإيجابيات، والخروج بتوصيات وبرامج عملية لتعزيز دورهم مستقبلًا فيما يتعلق بالأزمات الصحية والعالمية.

وأقترح أن يكون ضمن التوصيات التي تخرج بها هذه القمة إطلاق برامج زمالة تدريبية تهدف إلى تعزيز دور القيادات الدينية وتأهيل رجال الدين خاصة من الشباب على كيفية الإدارة الحكيمة لهذه الأزمات، وكيفية توجيه المجتمع نحو السلوك القويم عند الأزمات بكافة أنواعها (صحية، بيئية، عرقية.... إلخ).

أو ربما كذلك إنشاء "شبكة القيادات الدينية لمواجهة الكوارث العالمية" تجتمع مع كل كارثة إنسانية للتنسيق فيما بينها لوضع الحلول والاستراتيجيات العاجلة، وتوجيه أتباعهم بالإرشادات والتعاليم الدينية الصحيحة بما يتوافق مع كل أزمة، إسهامًا بدورهم المؤثر في مواجهة الكوارث والجوائح.