تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

فيروس كورونا المستجد والدين: ممارسات مبتكرة للعبادة وخدمة المجتمعات الضعيفة

18 مارس 2020

إن الدين يجمع الناس على قلب رجل واحد. ومع دعوة مسؤولي الصحة في مختلف أنحاء العالم إلى تجنب الاتصال غير الضروري الذي قد يؤدي إلى الإصابة بفيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، فإن الأزمة تؤدي إلى التباعد الاجتماعي والعزلة الذاتية. وفي أعقاب هذه التدابير، تعمل المجتمعات الدينية في شتى أنحاء العالم بروح من المسؤولية على تعديل ممارساتها الخاصة بإقامة الشعائر والفروض الدينية، وإدارة اللقاءات المجتمعية عبر الإنترنت، والصلاة من أجل الخلاص من شر هذا الوباء. وإن العديد من زملاء مركز الحوار العالمي يقودون الجهود في مجتمعاتهم الدينية المحلية والعالمية؛ إذ يقدمون حلولًا عملية ويزرعون الأمل في خضم حالة الارتباك والهلع.

نبدأ رحلة تعرُّف الجهود المبذولة بُغية الحد من خطر هذا الوباء الفتاك من قارة أوروبا. ففي هذه القارة التي أصبحت الآن بؤرة وباء فيروس كورونا المستجد، تحظر الحكومات التجمعات العامة وتقيد حرية التنقل، كما أنها أغلقت العديد من دور العبادة.

قالت مبروكة راياشي، وهي زميلة المركز عام 2015 والمشرفة على معلمي الدين الإسلامي بولاية النمسا السفلى في وزارة التعليم والهيئة الإسلامية الرسمية لدولة النمسا، إن أفراد مجتمعها المسلم المحلي قد بدء بعضهم ينحني لبعض عند إلقاء السلام بدل العناق أو التقبيل أو المصافحة، وهم كذلك يعقدون اجتماعاتهم عبر الإنترنت عوضًا عن الحضور إلى المساجد. وأضافت: "في مجتمعي، قررت قرابة 70 امرأة في فيينا -وأنا واحدة منهنَّ- أن يتقاسمن فيما بينهنَّ أجزاء القرآن الكريم الثلاثينَ. وإن كل واحدة منَّا تقرأ جزأها بنيَّة التضرُّع إلى الله عزَّ وجلَّ ليزيح عبئ أزمة فيروس كورونا المستجد عن كاهل الأقارب والأصدقاء والإنسانية جمعاء. ثم إننا نستخدم "الفيس بوك" و"الواتس آب" لتبادل المعلومات، ونقضي وقتًا قيمًا رفقة أبنائنا، لأن هذا الوقت العصيب هو فرصة ثمينة لنا للتركيز على الحب والتضامن". والحب والتضامن هذان يشملان خدمة المجتمع النمساوي كله، وليس المجتمع المسلم وحسْب، ورعاية الجيران المسنين الأكثر عرضة للإصابة بهذا المرض.

وفي بريطانيا، يشغل الحاخام ألكسندر غولدبيرج، زميل المركز عام 2015، منصبَ عميد كلية القساوسة وقسيس التنسيق في جامعة سري Surrey، التي تضم 16000 طالب و2000 موظف. ويصلي فريقُه الذي يضم مسلمين ومسيحيين ويهودًا وهندوسيين وبوذيين وسيخيين وبهائيين وقساوسة إنسانيين من أجل رفع الوباء، ويقدم الرعوية لأفراد المجتمع المنعزلين ذاتيًّا والمحجورين صحيًّا باستخدام خدمات مؤتمر الفيديو ومجموعات الواتس آب.

قال الحاخام غولدبيرج: "إننا نعمل على إنشاء أنظمة صداقة بوساطة تلك المجموعات، وبهذا يقدر الأشخاص المنعزلون على التواصل مع الآخرين ومعرفة أخبارهم ومحادثتهم إلكترونيًّا، ونُعد أيضًا مجموعات صغيرة لأداء الصلوات. وإن أشد ما يثير القلق بشأن العزلة هو الشعور بالوَحدة، لذلك نسعى جاهدين للقضاء على هذا البؤس والشقاء".

كما يعمل فريقه من القساوسة على تنفيذ تغييرات عملية للحد من انتشار الفيروس. فلمْ يَعد المسيحيون يتقاسمون النبيذ المقدَّس، وطُلب من اليهود عدم تقبيل الميزوزا (قطعة من الرَّق مع آيات محددة من التوراة تلصق على أبواب منازل اليهود) ومخطوطات التوراة، ونُصح الهندوس بنثر مسحوق ملون في الهواء بدل وضعه على وجوه الناس مباشرة في أثناء مهرجان الربيع (مهرجان هولي) المقام حديثًا.

ومع تشديد التوصيات الرسمية يوميًّا للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، فإن الحاخام غولدبيرج كثيرًا ما يحار في أمره ولا يجد إجابات وافية عن الكثير من الأسئلة. تابع الحاخام حديثه قائلًا: "إن شهر رمضان بات على الأبواب. فإن ظلَّ الناس منعزلين، كيف سنقدر على تزويدهم بالتمور والأطعمة ليتناولوها وقت إفطارهم؟ كذلك بات عيد الفصح اليهودي قريبًا منَّا. فكيف سنتمكن من إيصال منتجات خبز المصَّة والكوشر إلى الطلاب إن كانوا منعزلين هم أيضًا؟ ثم كيف نقيم شعائر الولادة والختان في ظل الحجر الصحي والانغلاق؟ وهل ستبقى المعابد اليهودية مفتوحة أمام احتفالات بلوغ سن التكليف الديني؟".

بدوره، ينصح زميلُ مركز الحوار العالمي عام 2016 الحاخام جيف برجر، وهو قسيس الأديان المتعددة في شرطة مقاطعة هيرتفوردشاير ببريطانيا، كبارَ السن ومن هم عرضة للخطر نتيجة لأمراض الجهاز التنفسي وأي شخص تظهر عليه أعراض الزكام أو البرد بالاستماع إلى القداديس عبر الإنترنت بدلًا من الحضور إلى الكَنيس. وإن المتطوعين يصلون بخدماتهم إلى الفئات الأشد ضعفًا بالمكالمات الهاتفية والزيارات المنزلية والمساعدة على أداء الأعمال المنزلية.

وإلى آسيا نمضي في رحلتنا لنتعرَّف حال بلدانها. ففي سنغافورة، التي حظيت بالثناء على جهودها الناجحة حتى الآن لاحتواء فيروس كورونا المستجد، ترأست زميلة مركز الحوار العالمي عام 2019 المعلمة تان زيشيا شعائر الطاويين وصلواتهم من أجل العافية والسلام في معبد الإمبراطور جايد المقدَّس يو هوانغ غونغ؛ إذ تعمل فيه كاهنةً مقيمة. ولقد مُنع الدخول إلى المعبد، لكن العبادة مستمرة عند بوابته.

حدثتنا المعلمة زيشيا بإجراءاتهم فقالت: "لقد نصحنا الشيوخَ بخفض عدد زياراتهم إلى المعبد لأداء الصلوات، كما ألغينا عددًا من الأنشطة لإجبارهم على ذلك وللحد من التواصل العام. ولقد اضطررنا إلى إلغاء إحدى أهم المناسبات عندنا، ألا وهي الاحتفال بيوم عيد البطريرك الأعلى لاوزي، وطلبنا من المصلين أن يحتفلوا بمهرجان تشينغ مينغ القادم (يوم كنس المقابر) في أثناء أيام الأسبوع لتجنب الازدحام العام في محارق الجثث والمقابر".

لنترك آسيا وشأنها قليلًا لنرى حال جارتها القارة الإفريقية. ففي البلدان الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى، التي بدأت تسجل حالات إصابة بالفيروس في وقت متأخر عن معظم دول العالم، يرجو الزملاء أن تظل جهود التدخل المبكرة قادرة على تجنيب مجتمعاتهم بعض الاضطرابات التي تواجهها مناطقُ أخريات.

وإلى تنزانيا، حيث قالت الأخت روز كياليغونزا، وهي زميلة مركز الحوار العالمي عام 2018 ومحاضرة في قسم الدراسات الدينية في جامعة القديس أوغسطين، إن المصلين في كنيستها يسيرون على خطى معظم الطوائف الكاثوليكية في شتى أنحاء الأرض في الامتناع عن استخدام الماء المقدَّس المشترك لرسم علامة الصليب، ولم يعد بعضهم يصافح بعضًا عند تشارك إشارة السلام، ويتناولون القربان المقدَّس باليد بدلًا من اللسان مباشرة.

ثم أردفت قائلة: "إنَّنا نصلي من أجل أن يرفع الرَّب القدير هذا الوباء القاتل عن البشرية جمعاء، ونسأله جلَّ من مسؤولٍ شفاءَ المصابين، ونتضرَّع إليه راجين حمايتَه أولئك الذين لم يصابوا بعدُ بالمرض. وإنَّنا لنجأر إلى الله عسى أن يرحم عبيده، ويلهمَ الأطباء معرفة الدواء الشافي".

ومن تنزانيا نصل إلى نيجيريا، حيث يترأس زميل مركز الحوار العالمي عام 2019 الأب ستيفن أوجاباه، وهو الكاهن الكاثوليكي للجمعية التبشيرية في سانت بول (MSP)، صلواتٍ لأتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية بلغة الهَوْسَا المحلية من أبرشيته في شمال غرب نيجيريا. ثم نتابع الرحلة إلى غانا لنسمع زميل المركز عام 2018 ومدير قسم الإدارة الأكاديمية في كلية الجامعة الإسلامية في غانا (IUCG) محمد قاسم يقول إن مجتمعه استبدل بالنشاطات الأبرشانية عبادةً منزلية.

ويصدق القول ذاتُه على أمريكا اللاتينية؛ إذ أفادت زميلة المركز عام 2015 ومنسقة الحوار بين أتباع الأديان من أجل التنمية في غواتيمالا فكتوريا بيلايز بإلغاء تجمعات الصوم الكبير والأسبوع المقدس، وبأن المسيحيين قد طُلب منهم متابعة القداس إمَّا بالاستماع إلى الإذاعة، وإمَّا بمشاهدة التلفاز، وإمَّا بمتابعة البث المباشر على الفيس بوك.

ثم نعود لنحط الرحال في قارة آسيا، وتحديدًا في الهند. فهذا البلد الذي بدأت تتصاعد فيه للتو حالات الإصابة المثبَتة بفيروس كورونا المستجد، شرعت مختلف طوائفه في اتخاذ إجراءات متباينة للحيلولة دون استفحال المعضلة.

وهنا قال يوديستر جوفيندا داس، زميل المركز عام 2019 والمدير القطري للاتصالات في الجمعية الدولية لوعي كريشنا (ISKCON)، إن أتباع الجمعية أضحوا يتجنبون التجمعات والمهرجانات الجماهيرية، وينظفون المعابد بالمطهرات، ويقدمون للرهبان المقيمين أقنعة ومعقمات لليدين. ثم أضاف: "تقام في مجموعات صغيرة شعائرُ خاصة للصلاة والكيرتان (الإنشاد الروحي أو الترنيم) للطلب من الإله كريشنا شفاء المصابين وحماية من لم يصب بعدُ. كما أننا نرتل ترنيمة دانفانتاري، وهي صلاة خاصة للرب الأعلى من أجل أن يمُنَّ علينا جميعًا بالصحة والعافية والسلامة".

وفي الأماكن التي أغلقت فيها المعابد أمام العامة، يسمح البث المباشر للمتعبدين بالمشاركة في شعائر صلاة البوجا ورؤية تماثيل الآلهة من المنازل. ويساعد أيضًا برنامج الغذاء من أجل الحياة التابع للجمعية الدولية لوعي كريشنا وكالات حكومية عدة على توزيع الطعام بين المسنين وغيرهم ممن هم أشد عرضة للإصابة بالفيروس.

وفي دلهي، تنسق زميلة مركز الحوار العالمي عام 2019 كينو أغاروال الجهود الدينية للمنظمة الاجتماعية أهيمسا فيشوا بهارتي. وقد بدأ المصلون حديثًا في مجتمعها الهندوسي ترديد ترنيمة ماهامريتونجايا من أجل درء الموت الذي حلَّ دون سابق إنذار. ثم قالت أغاروال: "إن القيادات الدينية والأتباع كلاهما لديه الإيمان بالله والصلوات".

ونختم الرحلة في إندونيسيا مع السيد يوسف داوود، زميل المركز عام 2015 ومدير مركز فيلوسوفي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات التابع لمعهد صوفيا سيتر(The SophiaCitra Institute’s PhiloSufi Centre for Interfaith and Intercultural Dialogue) ، الذي نسَّق صلوات أتباع ستة أديان في ثماني عشْرة مقاطعة لمواجهة فيروس كورونا  المستجد، والذي يرى في الأزمة الحالية بصيص أمل لا يجب إغفال وجوده. قال يوسف مبينًا ما رمى إليه: "لا ينبغي لنا أن نَعد المرض عدوًّا لنا بالضرورة، بل علينا أن نعُده آلية من آليات الجسم لتطهيرنا وتنقيتنا وإعادة التوازن إلينا على الصُّعد الجسدية والعاطفية والعقلية والروحية".

ومع استمرار أزمة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) في إزاحة الستار عن خباياها غير المتوقعة، ومع تأجيج الغموض والحيرة للقلق والفزع، ومع غدو العزلة الذاتية ضرورة مزعجة للكثير من الناس، فإن زملاء مركز الحوار العالمي وكل القيادات الدينية سيستمرون في الاضطلاع بدور بالغ الأهمية بالجمع بروح من المسؤولية بين المجتمعات المحلية في العبادة والاستجابة المشترَكتين.