تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

المقالة الافتتاحية: هل يمكن أن يسود السلام في العالم الخارجي في ظل غياب السلام في عالمنا الداخلي نفسه؟

03 سبتمبر 2019

بعد أربعة أشهر من التفجيرات التي وقعت في سريلانكا والتي أودت بحياة المئات من الأبرياء، كتب الدكتور محمد صفي الله منصور والبروفيسور محمد أبو نمر بأنَّ "السبيل الوحيد لتجنب العنف القائم على أساس الدين؛ هو إعادة اكتشاف تقليد (الروحانية الداخلية) الشائعة بين كل الأديان"؛ فبعد مرور خمسة أشهر تقريبًا على الهجمات المروِّعة التي ضربت سريلانكا في أثناء احتفالات عيد الفصح، وعلى هول الصدمة الأولى لهذا العمل الوحشي؛ وجدنا أنفسنا أمام مسؤولية إيجاد استجابة مدروسة ومتسقة بدرجة أعلى، تستند إلى التزام متجدد بالمشاركة عبر الحدود الدينية، ومناشدة أولئك الذين يدعون إلى الإسلام، فهمَ الأسس الجوهرية المذهبية والروحية فهمًا صحيحًا وإعلانَها كما ينبغي.

فالآيات الرئيسة في القرآن الكريم توضح الطبيعة العالمية للإسلام، ومنها قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. [الحجرات:13]. وقوله عزَّ من قائل: ﴿مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾. [المائدة:32].

كما جاء الحديث النبوي الشريف، واضحًا ومؤكدًا هذه الحقيقة؛ إذ قال رسول الله (ﷺ): «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». (النَّووي).

هذا هو جوهر الإسلام القائم على روحانية داخلية تشمل مبدأ التضامن الإنساني والمساواة. إذن، أين يكمن موطن العلَّة يا تُرى؟ وما الذي عسانا نفعله لتشجيع التحول إلى تعزيز الوئام الروحي؟

بدايةً، يتعيَّن علينا العمل على ترسيخ فهم مشترك لما يعنيه مصطلح (الوئام الروحي)، وذلك لأنَّ كل فرد منَّا يفهمه فهمًا يختلف عن الآخر. وفي هذا السياق، يمكن وصف الوئام الروحي بأنَّه يتجلَّى في قدراتنا المتباينة على التعبير عن التضامن والعطف والتعاطف مع أولئك الذين ينتمون إلى مجموعات دينية أو غير دينية مختلفة. هذا المجال للتعبير عن عناصر التضامن والتفاهم تلك يصوغ حالتنا البدنية والذهنية المقدَّسة المشترَكة.

فالأديان كافَّة تتقاسم مجموعة عالمية من القيم الدينية والإنسانية. وعليه؛ فإنَّ الخطوة الأولى هي التوفيق بين الروايات الدينية المتنوعة لعكس الوئام الروحي هذا. وإذا ما تم هذا النهج بصورة منتظمة ووعي؛ فإنَّه سيُثري مسارات التفكير ويغيرها من أجل تعزيز الوئام المجتمعي وجعله أفضل. وإنَّ السبيل الأمثل لتحقيق ذلك هو الحوار بين أتباع الأديان، الذي له نُهُوجه ومنهجياته وأدواته وأُطره الخاصة به التي تهدف إلى إنشاء مسارات لحوار أعمق.

ثانيًا، لدينا اعتبار أهمُّ ويُغفَل في الغالب: هل يمكن أن يسود السلام في العالم الخارجي في ظل غياب السلام في عالمنا الداخلي نفسه؟

وبالنظر إلى رغبة الأديان في أن تصبح ذات طابع مؤسَّسي وشكلي؛ فإنَّ هنالك حاجة إلى التركيز في الوقت نفسه على الجوانب الداخلية والخارجية، المتعلِّقة بالالتزام والروحانية؛ ما يعني أنَّه في حال التزامنا الشعائرَ الخارجية، التي تعطي (المظهر)، نحتاج أيضًا إلى التركيز على البعد الداخلي أو (المخبر/ الروح)، الذي يحدد الصلة بين القلب والعقل.

ولتعزيز الروحانية، لدى الأديان كَمٌّ هائلٌ من الممارسات التأمليَّة، ومنها التبصُّر في البوذية (الفيباشنا، مراقبة النفس والتنفس اليقظ)، إلى نظام اليوغا متعدد الأوجه في الهندوسية، والصلوات مع التركيز في المسيحية، والذِّكر في الإسلام، الذي يشتمل على صلوات صامتة وتلاوة وتفكُّر (مراقبة).

تشير الأدلة المتزايدة التي تقدمها علوم الأعصاب إلى أنَّ هذه الممارسات التأمليَّة؛ تؤدي إلى فوائد إيجابية من الناحية الفيزيولوجية العصبية، إضافة إلى النفسية، وإذا نُفِّذت كما ينبغي، فإنَّها تؤثر في موقف المرء وسلوكه وتمنحه راحة داخلية عميقة ومستدامة؛ لذا، إن كان تذكيرنا لأنفسنا بالحاجة إلى تعزيز روحانيتنا الداخلية يُعد خطوة بالغة الأهمية، فإنَّ التعليم الروحي العالمي يشكِّل عاملاً مهمًا، يمكِّن من تحقيق ذلك، (القيم والأدوات والشعائر التي تسهِّل فهمًا أعمق للأديان جميعها). هذا الجانب يُفتقَر إليه بشدَّة في المدارس كافة، فضلًا عن الأماكن العامة والخاصة، ومنها المدارس الإسلامية والأديرة والمدارس الأهلية الهندية والمعاهد اللاهوتية، مع أنَّ الفرد لا يرى ما ظهر في الآونة الأخيرة من (الروحانية في المجال العام) (بوكارت، 2003) التي تُعَدُّ ممارساتُها مفيدة. ولا ينبغي لنا أن نخشى تعليم أطفالنا القيم الإيجابية التي تحملها كل مجموعة دينية.

وفي ضوء حقائق اليوم؛ فإنَّ هذا الأمر لا بد منه في عالمنا المضطرب. وفي المجال الديني؛ فإنَّ النهوج والأساليب والأدوات متاحة وتحتاج إلى أن يستخدمها القيادات الدينية وعامة الجمهور بطريقة أكثر جدية ومنهجية؛ لأنَّ ذلك يؤثر بالمستوى الفردي والمجتمعي على حد سواء. كما أنَّه من المتوقع وضع القيادات الدينية نموذجًا لبناء السلام بوساطة الاتصال بأولئك المنتسبين إلى جماعات دينية أخرى؛ فعندما تتولى هذه القيادات دور صانعي السلام بحقٍّ داخل مجتمعاتها وخارجها، حينها تسهم إسهامًا كبيرًا في الأمن والدفاع الرئيس ضد التطرف القائم على العنف. ولكن لكي يحدث ذلك؛ يتعين على صانعي السياسات وقادة المؤسسات الأمنية؛ التواصل مع هكذا قيادات دينية، والتماس إسهاماتها ودعمها استنادًا إلى المشاركة الإيجابية وليس إلى الاستغلال السياسي و/أو الترهيب: "إنَّ عودة الكراهية من أجل الكراهية تضاعف الكراهية وتضيف ظلامًا أشد حُلكة إلى ليلة صافية لا نجوم فيها. فالظلام لا يستطيع طرد الظلام، وحده النور من يقدر على ذلك". (مارتن لوثر الابن، 1963).

وعلى هذا، فإنَّ تغيير البوصلة الداخلية بالممارسات التأملية، والأنظمة القائمة على القيم، والتعليم الروحاني، والمشاركة الإيجابية مع القيادات الدينية وصانعي السياسات في السياق السيريلانكي؛ من شأنه أن تعزيز عملية الشفاء والوصول إلى المزيد من الوضوح في المسار الصحيح لرحلة الحياة. وهنالك حاجة إلى بذل جهود واعية لنشر قيم الصبر والحب والتسامح والتعاطف بُغية رأب الصدع في قلوبنا وتصحيح مفاهيمنا".

-----------------------------------------------------------

الدكتور محمد صفي الله منصور هو مواطن سريلانكي ومدير برامج مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات؛ درس في الكلية الملكية في مدينة كولومبو، ثم انتقل إلى بريطانيا لإكمال مسيرته التعليمية، وحصل على درجة الدكتوراه الأولى في مجال التنمية الريفية الدولية مع التركيز على المنظمات المحلية في ميانمار (جامعة ريدنغ، المملكة المتحدة)، ونال ودرجة الدكتوراه الثانية في القيادة الروحية والتنمية الذاتية: دراسة حالة النظام روحي في ماليزيا (جامعة مالايا).

الأستاذ محمد أبو نمر من كبار المستشارين في مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات وأستاذ في كلية الخدمة الدولية في الجامعة الأمريكية في واشطن العاصمة. وتولى منصب مدير معهد بناء السلام والتنمية في الجامعة الأمريكية. وأسس أيضًا معهد السلام لشوؤن السلم والعدالة. وقد أجرى دورات تدريبية بشأن حل النزاعات بين أتباع الأديان وورش عمل للحوار بين أتباع الأديان في مناطق تشوبها نزاعات في جميع أنحاء العالم، بما فيها سريلانكا. وبالإضافة إلى المقالات والكتب الكثيرة التي نشرها الدكتور أبو نمر، شارك في تأسيس وتحرير مجلة بناء السلام والتنمية.

هذه النسخة معدلة، وتم نشرها في الأصل في صحيفة "فايننشال تايمز" اليومية السيريلانكية.

 

 
الكلمات الرئيسية